فصل: الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.الخبر عن استقلال يغمراسن بن زيان بالملك والدولة بتلمسان وما إليها وكيف مهد الأمر لقومه وأصاره تراثا لبنيه:

كان يغمراسن بن زيان بن ثابت بن محمد من أشد هذا الحي بأسا وأعظمهم في النفوس مهابة إجلالا وأعرفهم بمصالح قبيله وأقواهم كاهلا على حمل الملك واضطلاعا بالتدبير والرياسة شهدت له بذلك آثاره قبل الملك وبعده وكان مرموقا بعين التجلة مؤملا للأمر عند المشيخة وتعظمه من أمره عند الخاصة ويفزع إليه في نوائبها العامة فلما ولي هذا الأمر بعد أخيه أبي عزة زكراز بن زيان سنة ثلاث وثلاثين قام به أحسن قيام واضطلع بأعبائه وظهر على بني مطهر وبني راشد الخارجين على أخيه وأصارهم في جملته وتحت سلطانه وأحسن السيرة في الرعية واستمال عشيرته وقومه وأحلافهم من زغبة بحسن السياسة والاصطناع وكرم الجوار واتخذ الآلة ورتب الجنود والمسالح واستلحق العساكر من الروم والغز رامحة وناشبة وفرض العطاء واتخذ الوزراء والكتاب وبعث في الأعمال ولبس شارة الملك والسلطان واقتعد الكرسي ومحا آثار الدولة المؤمنية وعطل من الأمر والنهي دستها ولم يترك من رسوم دولتهم وألقاب ملكهم إلا الدعاء على منابره للخليفة بمراكش وتقلد العهد من يده تأنيسا للكافة ومرضاة للأكفاء من قومه ووفد عليه لأول دولته ابن وضاح إثر الموحدين أجاز البحر مع جالية المسلمين من شرق الأندلس فآثره وقرب مجلسه وأكرم نزله وأحله من الخلة والشورى بمكان اصطفاه له ووفد في جملته أبو بكر بن خطاب المبايع لأخيه بمرسية وكان مرسلا بليغا وكاتبا مجيدا وشاعرا محسنا فاستكتبه وصدر عنه من الرسائل في خطاب خلفاء الموحدين بمراكش وتونس في عهود بيعاتهم ما تنوقل وحفظ ولم يزل يغمراسن محاميا عن غيله محاربا لعدوه وكانت له مع ملوك الموحدين من آل عبد المؤمن ومديلهم آل أبي حفص مواطن في التمرس به ومنازلة بلده نحن ذاكروها كذلك وبينه وبين أقتاله بني مرين قبل ملكهم المغرب وبعد ملكه وقائع متعددة وله على زناتة الشرف من توجين ومغراوة في فل جموعهم وانتساف بلادهم وتخريب أوطانهم أيام مذكورة وآثار معروفة نشير إلى جميعها إن شاء الله تعالى.

.الخبر عن استيلاء الأمير أبي زكريا على تلمسان ودخول يغمراسن في دعوته:

لما استقل يغمراسن بن زيان بأمر تلمسان والمغرب الأوسط وظفر بالسلطان وعلا كعبه على سائر أحياء زناتة نفسوا عليه ما آتاه الله من العز وكرمه به من الملك فنابذوه العهد وشاقوه الطاعة وركبوا له ظهر الخلاف والعداوة فشمر لحربهم ونازلهم في ديارهم وأحجرهم في أمصارهم ومعتصماتهم من شواهق الجبال ومتمنع الأمصار وكانت له عليهم أيام مشهورة ووقائع معروفة وكان متولي كبر هذه المشاقة عبد القوي بن عباس شيخ بني توجين أقتالهم من بني يادين والعباس بن منديل بن عبد الرحمن أخوته أمراء مغراوة وكان المولى الأمير أبو زكريا بن أبى حفص منذ استقل بأمر أفريقية واقتطعها من الإيالة المؤمنية سنة خمس وعشربن وستمائة كما ذكرناه متطاولا إلى احتياز المغرب والاستيلاء على كرسي الدعوة بمراكش وكان يرى أن بمظاهرة زناتة له على شأنه يتم له ما يسمو إليه من ذلك فكان يداخل أمراء زناتة فيرغبهم ويراسلهم بذلك على الأحيان من بني مرين وبني عبد الواد وتوجين ومغراوة وكان يغمراسن منذ تقلد طاعة بني عبد المؤمن أقام دعوتهم بعمله متحيزا إليهم سلما لوليهم وحربا على عدوهم وكان الرشيد منهم قد ضاعف له البر والخلوص وخطب منه مزيد الولاية والمصافاة وعاوده الاتحاف بأنواع الألطاف والهدايا عام سبع وثلاثين وستمائة تقمنا لمسراته وميلا إليه عن جانب أقنال بني مرين المجلبين على المغرب والدولة وأحفظ الأمير أبا زكريا بن عبد الواحد صاحب أفريقية ما كان من اتصال يغمراسن بالرشيد وهو من جواره بالمحل القريب واستكره ذلك وبينما هو على ذلك إذ وفد عليه عبد القوي بن عباس وولد منديل بن محمد صريخين على يغمراسن وسفلوا له أمره وسولوا له الاستيلاء على تلمسان وجمع كلمة زناتة واعتدا ذلك ركابا لما يرومه من امتطاء ملك الموحدين وانتظامه في أمره وسلما لارتقاء ما يسمو إليه من ملكه وبابا للولوج على أهله فحركه املاؤهم وهزه إلى النعرة صريخهم وأهب بالموحدين وسائر الأولياء والعساكر إلى الحركة على تلمسان واستنفر لذلك سائر البدو من الأعراب الذين في عمله من بني سليم ورياح بظعنهم فأهطعوا لداعيه ونهض سنة تسع وثلاثين وستمائة في عساكر ضخمة وجيوش وافرة وسرح أمام حركته عبد القوي بن العباس وأولاد منديل بن محمد لحشد من بأوطانهم من أحياء زناتة وأتباعهم وذؤبان قبائلهم وأحياء زغبة أحلافهم من العرب وضرب لهم موعدا لموافاتهم في تخوم بلادهم ولما نزل زاغر قبلة تيطري منتهى مجالات رياح وبني سليم في المغرب وافته هنالك أحياء زغبة من بني عامر وسويد وارتحلوا معه حتى نازل تلمسان فجمع عساكر الموحدين وحشد زناتة وظعن المغرب بعد أن قدم إلى يغمراسن الرسل من مليانة والأعذار والبراءة والدعاء والطاعة فرجعهم بالخيبة.
ولما حلت عساكر الموحدين بساحة البلد وبرز يغمراسن وجموعه نضحتهم ناشبة السلطان بالنبل فانكشفوا ولاذوا بالجدران وعجزوا عن حماية الأسوار فاستمكنت المقاتلة من الصعود ورأى يغمراسن أن قد أحيط بالبلد فقصد باب العقبة من أبواب تلمسان ملتفا على ذويه وخاصته واعترضه عساكر الموحدين فصمد نحوهم وجندل بعض أبطالهم فأفرجوا له ولحق بالصحراء وانسلت الجيوش إلى البلد من كل حدب فاقتحموه وعاثوا فيه بقتل النساء والصبيان واكتساح الأموال ولما تجلى عشاء تلك الهيعة وحسر تيار الصدمة وخمدت نار الحرب راجع الموحدون بصائرهم وأمعن الأمير نظره فيمن يقلده أمر تلمسان والمغرب الأوسط وينزله بثغرها لإقامة دعوته الدائلة من دعوة المؤمن والمدافعة عنها واستكبر ذلك أشرافهم وتدافعوه وتبرأ أمراء زناتة منه ضعفا عن مقاومة يغمراسن وعلما بأنه الفحل الذي لا يجدع أنفه ولا يطرق غيله ولا يصد عن فريسته وسرح يغمراسن الغارات في نواحي العسكر فاختطفوا الناس من حوله وأطلوا من المراقب عليه وخاطب يغمراسن خلال ذلك الأمير أبا زكريا راغبا في القيام بدعوته بتلمسان فراجعه بالإسعاف واتصال اليد على صاحب مراكش وسوغه على ذلك جباية اقتطعها له وأطلق أيدي العمال ليغمراسن على جبايتها ووفدت أمه سوط النساء للاشتراط والقبول فأكرم وصلها وأسنى جائزتها وأحسن وفادتها ومنقلبها وارتحل إلى حضرته لسبع عشرة ليلة من نزوله وفي أثناء طريقه وسوس إليه بعض الحاشية باستبداد يغمراسن عليه وأشاروا بإقامة منافسيه من زناتة فأجابهم وقلد عبد القوي بن عطية التوجيني والعباس بن منديل المغراوي وعلي بن منصور الملكيشي على قومهم ووطنهم وعهد إليهم بذلك وأذن لهم في اتخاذ الآلة والمراسم السلطانية على سنن يغمراسن قريعهم فاتخذوها بحضرته وبمشهد من ملك الموحدين وأقاموا مراسمها ببابه وأغذ السير لتونس قرير العين بامتداد ملكه وبلوغ وطره والإشراف على أذعان المغرب لطاعته وانقياده وحكمه وإدالة عبد المؤمن فيه بدعوته ودخل يغمراسن بن زيان ووفى للأمير أبي زكريا بعهده وأقام بها الدعوة له على سائر منابره وصرف إلى مشاقيه من زناتة وجوه عزائمه فأذاق عبد القوي وأولاد عباس وأولاد منديل نكال الحرب وسامهم سوء العذاب والفتنة وجاس خلال ديارهم وتوغل في بلادهم وغلبهم على الكثير من ممالكهم وشرد عن الأمصار والقواعد ولاتهم وأشياعهم ودعاتهم ورفع عن الرعية ما نالهم من عدوانهم وسوء ملكتهم وثقيل عسفهم وجورهم ولم يزل على تلك الحال إلى أن كان من حركة صاحب مراكش بسبب أخذ يغمراسن بالدعوة الحفصية ما نذكره إن شاء الله تعالى.